في عام 2022 نشرت منظمة الصحة العالمية تقريراً يتحدث عن دور المؤثرين «الإنفلونسرز» بمنصات التواصل الاجتماعي، وترويجهم للألبان الصناعية بديلاً للرضاعة الطبيعية. تحدث التقرير عن كيف استهدفت شركات الحليب الصناعي التعاون مع المؤثرين للتأثير على الحوامل والأمهات في اللحظات الأكثر ضعفاً من حياتهم.
اعتمد التقرير على بحث نفذته المؤسسة، تضمن أخذ عينات وتحليل أربعة ملايين منشور من وسائل التواصل الاجتماعي حول تغذية الأطفال الرضع، نُشرت في الفترة من يناير إلى يونيو 2021. وصلت هذه المنشورات إلى 2.47 مليار شخص، وحصدت ما يزيد على 12 مليون تفاعل بين إعجاب أو تعليق أو مشاركة.
وأمام قوة التسويق لمنتجات الحليب الصناعي، ورغم قيمة الرضاعة الطبيعية وفوائدها، زادت مبيعات هذه المنتجات، وبلغت قيمة هذا السوق وقت صدور التقرير 55 مليار دولار أمريكي. هذا الأمر هو دليل بسيط على ما يحدثه المؤثرون من أثر على حياة المجتمعات. والسؤال هو: كيف يقود المؤثرون قرارات الجمهور؟
اقتصاد المؤثرين أو اقتصاد المبدعين مفهوم يعبر عن نظام اقتصادي يحقق فيه الأفراد الدخل عبر إنشاء محتوى يؤثر على قرارات المستخدمين، ويشكل سلوكياتهم الشرائية. ظهر المفهوم لأول مرة في 1997 باقتراح من بول سافو من جامعة ستانفورد الذي وصفه بأنه «الاقتصاد الجديد».
آنذاك كان المبدعون ينشئون محتوى رسوم فلاش المتحركة يرفعونها على منصة DeviantArt، أو رسوم المانجا التوضيحية الممسوحة ضوئياً على منصة «Xanga». لكن لم تكن هناك بنية تحتية ملائمة تمكنهم من تحقيق الإيرادات من هذا المحتوى.
بالطبع تزامناً مع انتشار الإنترنت وزيادة عدد مستخدميه، وشيوع منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، استفاد اقتصاد المؤثرين من هذا الأمر وزادت قيمته بصورة كبيرة. في العام الماضي مثلاً قدرت قيمة هذا السوق عالمياً بـ13:86 مليار دولار، ويتوقع أن يصل عام 2031 إلى 139 مليار دولار، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 33.4%.
في هذا السياق لا بد أيضاً من تعريف من هو المؤثر، وهو ببساطة: شخص يمتلك قدرة التأثير على سلوكيات الجمهور. والحقيقة أنه وفقاً لهذا التعريف فأي شخص يملك هذه القدرة يمكن وصفه على أنه مؤثر، لكن لا بد من تضييق نطاق التعريف قليلاً ليسهل فهمه، لذا يمكننا تصنيف المؤثرين وفقاً لطبيعة محتواهم وأعداد المتابعين:
بالطبع تتضمن قائمة المؤثرين أنواعاً مختلفة، لكن أهم ثلاثة أنواع:
- المشاهير Celebrities: مثل الفنانين والرياضيين، وعادة هم الأكثر متابعة من الجمهور.
- قادة الفكر Thought Leaders: الخبراء في المجالات المختلفة، مثل رواد الأعمال وأصحاب الشركات والمدربين والاستشاريين.
- صناع المحتوى Content Creators: ويشمل ذلك صناع المحتوى بصوره المختلفة، سواء كانوا كتاباً أو مدونين «Bloggers» أو منشئي محتوى الفيديوهات «Vloggers» مثل مقيمي الطعام «Food Reviewers» أو المدونين الصوتيين «Podcasters».
جزء مهم من نجاح المؤثر يتعلق بأعداد المتابعين له، ولذلك توجد مسميات مختلفة تصف المؤثرين طبقاً لأعداد متابعيهم:
المسميات التي تصف المؤثرين طبقاً لأعداد متابعيهم
تتنوع الطرق التي يحقق بها المؤثرون أرباحهم، تعتمد بعضها على التعاون مع جهات خارجية، وأحياناً يعمل المؤثر بصورة فردية ويحقق الأرباح من محتواه. من أهم الطرق التي يحقق بها المؤثرون أرباحهم:
- الربح من الزيارات/المشاهدات: الاعتماد على المنصات التي تدفع في مقابل أعداد الزيارات والمشاهدات مثل الاشتراك في برنامج شركاء «يوتيوب».
- الإعلانات: التسويق والترويج لمنتجات أو خدمات معينة لعلامات تجارية.
- رعاية المحتوى: تقديم المحتوى برعاية جهة معينة يتم الإعلان عنها داخل المحتوى والتعريف بها للمتابعين.
- المنتجات والخدمات الشخصية: إنشاء المؤثرين منتجاتهم أو خدماتهم الخاصة وبيعها مباشرة للجمهور، مثلاً مدرب متخصص في البيزنس وله متابعون ينشئ دورة أو كتاباً في المجال ويبيعه للجمهور.
- الدعم المالي المباشر: الحصول على دعم من المتابعين من خلال منصات مخصصة لذلك مثل «Patreon» أو من التبرعات التي يمكن جمعها في أثناء البث المباشر على منصات التواصل الاجتماعي التي تتيح ذلك مثل «تيك توك».
- التسويق بالعمولة: الترويج لمنتجات أو خدمات معينة والحصول على عمولة من كل عملية شراء تتم من خلال رابط أو كود خاص بالمؤثر يستخدمه في الترويج.
صحيح يرتبط انتشار المؤثرين بانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وإقبال الأجيال الجديدة عليها مثل جيل زد وألفا، لكن هذا ليس التفسير الوحيد لقوة أثرهم، بل الحقيقة توجد عديد من الأسباب التي تقف وراء هذا الأثر.
السبب الأكبر هو أن ما يفعله المؤثرون لا يظهر على أنه تسويق من الأساس، بل يظهر جزءاً من حياة المؤثر، وبمرور الوقت وانتشار المؤثر يصبح ما يفعله هدفاً يسعى الآخرون إلى تحقيقه، كما يستخدم المؤثرون أساليب وحيلاً نفسية تمكنهم من قيادة قرارات الجمهور.
يشير تقرير سوق المؤثرين العالميين إلى أن هناك أربعة قطاعات هي الأكثر تأثراً بالمؤثرين عن غيرها، وهي:
- الموضة ونمط الحياة Fashion & Lifestyle.
- الغذاء والترفيه Food & Entertainment.
- السفر والعطلات Travel & Holiday.
- الرياضة واللياقة البدنية Sports & Fitness.
وكما يظهر فجميع هذه القطاعات هي قطاعات مرتبطة بأمور ظاهرية في حياة المستخدمين، وهذا يفسر نجاح المؤثرين في قيادة سلوكيات الجمهور، نتيجة لاعتمادهم على العوامل التالية:
1. استهداف المشاعر والتوقيت المناسب
يلعب المؤثرون على المشاعر دائماً مثلما أشار تقرير منظمة الصحة الحالية، والأهم من ذلك أنهم يستهدفون المشاعر بطريقة مؤثرة وفي الوقت الذي لا يمكن للمستخدم مقاومته، ويشعر بضرورة الاستجابة السريعة لأن هذا لمصلحته.
وهذا ما ذكره التقرير، فقد نص على أن شركات الحليب الصناعي وجهت المحتوى للسيدات في لحظاتهن الأكثر ضعفاً، مثل لحظات ما بعد الولادة مباشرةً، حيث يكون لديهن أسئلة ومخاوف حول تغذية أطفالهن. وهنا قدم لهم المؤثرون محتوى مخصصاً يبدو كأنه معلومات مفيدة أو نصائح، ولكنه في الواقع ترويج لمنتجات الحليب الصناعي.
2. الاستفادة من معضلة الشعور بفوات شيء معين «Fear of Missing Out»
الشعور بفوات شيء معين «Fear of Missing Out» أو ما يعرف اختصاراً بالفومو «FOMO» هو شعور قلق أو اضطراب ينشأ لدى المستخدمين عند رؤيتهم للآخرين يستمتعون بتجارب أو أحداث بعينها، وهذا يجعلهم يشعرون بالرغبة في فعل المثل وأن يكونوا جزءاً من هذه التجارب.
لذا، عندما يروج المؤثرون لمنتج أو خدمة ما، يشعر المستخدمون بحاجة ملحة للحصول على المنتج قبل أن تفوتهم الفرصة، ويدفعهم ذلك لاتخاذ قرارات شراء سريعة وغير مدروسة في كثير من الأحيان. وهذا ما أشارت إليه دراسة وضحت أن 60% من جيل الألفية يجرون عمليات شراء مدفوعة بهذه الظاهرة خلال 24 ساعة من وقت رؤيتهم للمنتج أو الخدمة.
3. اللعب على ضغط الأقران
ضغط الأقران هو ظاهرة اجتماعية قوية تسهم في انتشار المؤثرين وتأثيرهم العميق على قرارات الجمهور. يتجلى ضغط الأقران في الرغبة القوية لدى الأفراد في الانتماء إلى مجموعة معينة أو الشعور بقبول اجتماعي من خلال تقليد سلوكيات وآراء الآخرين، وذلك بفعل تأثرهم بالأقران الموجودين من حولهم.
في بحث عن تأثير الأقران في عملية صنع القرار الاستهلاكي لدى الشباب البالغين، أقر 76.6% من المشاركين بقيامهم بأشياء فقط لإسعاد أصدقائهم، وأقر 46.6% بأنهم يتأثرون بخيارات المنتجات التي يستخدمها أصدقاؤهم، تؤكد هذه الأرقام أثر الأقران على اتخاذ القرارات.
يستفيد المؤثرون من هذه الظاهرة، حيث إنهم يحددون مثلاً معايير معينة للموضة الحديثة، مما يجعل متابعيهم يسعون للامتثال لهذه المعايير، وعندما يرى الفرد أن هناك مجموعة كبيرة تتبع هذا المؤثر وتفعل مثله، فإنه يشعر بضرورة أن يفعل مثلهم بسبب ضغط الأقران، وهذا يزيد من تأثير المؤثرين.
4. الاعتماد على فقدان ثقة المستخدمين في التسويق التقليدي للشركات
بمرور الوقت زاد وعي الجمهور ولم يعد يتأثر بسهولة بأساليب التسويق المعتادة، لأنه يرى أنه بطبيعة الحال لن تذكر الشركة عيوباً عن منتجاتها، أدى ذلك لاحتياج الشركات لأساليب ترويجية أخرى لمنتجاتها، وظهرت استراتيجية التسويق عبر المؤثرين كاستراتيجية مهمة يمكن الاعتماد عليها.
والملاحظ أنه للسبب ذاته، مع تزايد عدد المؤثرين واستخدامهم في الترويج، أدرك المستخدمون أنه لا يمكنهم بسهولة الثقة في أي مؤثر يروج لجميع المنتجات حتى تلك التي لا يستخدمها فعلاً. وهذا ترتب عليه فرصة لأنواع أخرى من المؤثرين، ربما تحظى بمتابعة أقل، لكنهم أكثر تخصصية في مساحة بعينها. لكن في النهاية يتمتع المؤثرون بثقة أكبر من التي تحظى بها الشركات.
آثار المؤثرين ليست سلبية دائماً، ونهجهم ليس الربحية فقط، بل أحياناً يلعبون دوراً في خدمة المجتمع ومساعدته. مثلاً في مطلع عام 2022، شارك اليوتيوبر الكويتي حسن سليمان المشهور بأبو فلة في حملة «لنجعل شتاءهم أدفأ» لمساعدة اللاجئين، حيث بدأ بثاً مباشراً من داخل غرفة زجاجية استمر لمدة 12 يوماً، وبالفعل نجح في النهاية في جمع أكثر من 11 مليون دولار.
في النهاية نتفق أو نختلف على قيمة المؤثرين وأثرهم، لكن الحقيقة أن اقتصاد المؤثرين أصبح جزءاً رئيساً من واقعنا اليوم، ويلعبون دوراً كبيراً في قيادة قرارات الجمهور، فلا بد من الاعتراف والإقرار بأثره، والتفكير جيداً في كيفية مواجهته والتعامل معه.